الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال:أحدها: أنه خلطها بالنسوة، لحسن عِشرةٍ فيه وأدبٍ، قاله الزجاج.والثاني: لأنها زوجة ملك، فصانها.والثالث: لأن النسوة شاهدات عليها له.والرابع: لأن في ذكره لها نوع تهمة، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي.قال المفسرون: فرجع الرسول إِلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال: {ما خطبكن} أي: ما شأنكن وقصتكن: {إِذْ راودتُّنَ يوسف}.فإن قيل: إِنما راودته واحدة، فلم جمعن؟ فعنه ثلاثة أجوبة:أحدها: أنه جمعهن في السؤال ليُعلم عينُ المراوِدة.والثاني: أن أزليخا راودته على نفسه، وراوده باقي النسوة على القبول منها.والثالث: أنه جمعهنَّ في الخطاب، والمعنى لواحدة منهن، لأنه قد يوقع على النوع وصف الجنس إِذا أُمن من اللبس، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: «إِنكن أكثر أهل النار»، فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن، ذكره ابن الأنباري.قوله تعالى: {قلن حاش لله} قال الزجاج: قرأ الحسن بتسكين الشين، ولا اختلاف بين النحويين أن الإِسكان غير جائز، لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز، ولا هو من كلام العرب.فأعلم النسوةُ الملكَ براءة يوسف من السوء، فقالت امرأة العزيز: {الآن حصحص الحق} أي: برز وتبين، واشتقاقه في اللغة من الحِصَّة، أي: بانت حصة الحق وجهته من حصة جهة الباطل.وقال ابن القاسم: {حصحص} بمعنى وضح وانكشف، تقول العرب: حصحص البعير في بروكه: إِذا تمكن، وأثَّر في الأرض، وفرَّق الحصى.وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإِقرار قولان:أحدهما: أنها لما رأت النسوة قد برّأنه، قالت: لم يبق إِلا أن يُقبِلن علي بالتقرير، فأقرت، قاله الفراء.والثاني: أنها أظهرت التوبة وحققت صدق يوسف، قاله الماوردي.قوله تعالى: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال مقاتل: {ذلك} بمعنى هذا.وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه، لقرب الخبر من أصحابه، فصار كالمشاهد الذي يشار إِليه بهذا، ولمّا كان متقضيًا، أمكن أن يشار إِليه بذلك، لأن المقتضّي كالغائب.واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال:أحدها: أنه يوسف، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئًا ثم تصله بالحكاية عن آخر.ونظير هذا قوله: {يريد أن يخرجكم من أرضكم} [الأعراف: 110] هذا قول الملأ: {فماذا تأمرون} قول فرعون.ومثله: {وجعلوا أعزَّة أهلها أذلَّة} [النمل: 34] هذا قول بلقيس: {وكذلك يفعلون} قول الله تعالى.ومثله: {مَنْ بَعَثَنَا من مرقدنا} [يس: 52] هذا قول الكفار، فقالت الملائكة: {هذا ما وعد الرحمن} وإِنما يجوز مثل هذا في الكلام، لظهور الدلالة على المعنى.واختلفوا، أين قال يوسف هذا؟ على قولين:أحدهما: أنه لما رجع الساقي إِلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة للملك، قال: حينئذ {ذلك ليعلم}، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج.والثاني: أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك، رواه عطاء عن ابن عباس.قوله تعالى: {ذلك ليعلم} أي: ذلك الذي فعلت من ردِّي رسول الملك، ليعلم.واختلفوا في المشار إِليه بقوله: {ليعلم} وقوله: {لم أخنه} على أربعة أقوال:أحدها: أنه العزيز، والمعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته: {بالغيب} أي: إِذا غاب عني، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور.والثاني: أن المشار إِليه بقوله: {ليعلم} الملك، والمشار إِليه بقوله: {لم أخنه} العزيز، والمعنى: ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب، رواه الضحاك عن ابن عباس.والثالث: أن المشار إِليه بالشيئين، الملك، فالمعنى: ليعلم الملك أني لم أخنه، يعني الملك أيضًا، بالغيب.وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان:أحدهما: لكون العزيز وزيره، فالمعنى: لم أخنه في امرأة وزيره، قاله ابن الأنباري.والثاني: لم أخنه في بنت أخته، وكانت أزليخا بنت أخت الملك، قاله أبو سليمان الدمشقي.والرابع: أن المشار إِليه بقوله: {ليعلم} الله، فالمعنى: ليعلم الله أني لم أخنه، روي عن مجاهد، قال ابن الأنباري: نسبَ العلم إِلى الله في الظاهر، وهو في المعنى للمخلوقين، كقوله: {حتى نعلم المجاهدين منكم} [محمد: 31].فإن قيل: إِن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك، فكيف قال: {ليعلم} ولم يقل: لتعلم، وهو يخاطبه؟فالجواب: أنا إِن قلنا: إِنه كان حاضرًا عند الملك، فانما آثر الخطاب بالياء توقيرًا للملك، كما يقول الرجل للوزير: إِن رأى الوزير أن يوقّع في قصتي.وإِن قلنا: إِنه كان غائبًا، فلا وجه لدخول التاء، وكذلك إِن قلنا: إِنه عنى العزيز، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ.والقول الثاني: أنه قول امرأة العزيز، فعلى هذا يتصل بما قبله، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه.والثالث: أنه قول العزيز، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته، حكى القولين الماوردي.قوله تعالى: {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} قال ابن عباس: لا يصوِّب عمل الزناة، وقال غيره: لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته.قوله تعالى: {وما أبرِّئ} في القائل لهذا ثلاثة أقوال، وهي التي تقدمت في الآية قبلها.فالذين قالوا: هو يوسف، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال:أحدها: أنه لما قال: {ليعلم أني لم أخُنه بالغيب} غمزه جبريل، فقال: ولا حين هممتَ؟ فقال: {وما أبرئ نفسي}، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون.والثاني: أن يوسف لما قال: {لم أخنه}، ذكر أنه قد همّ بها فقال: {وما أبرئ نفسي}، رواه العوفي عن ابن عباس.والثالث: أنه لما قال ذلك، خاف أن يكون قد زكَّى نفسه، فقال: {وما أبرئ نفسي}، قاله الحسن.والرابع: أنه لما قاله، قال له الملك الذي معه: اذكر ما هممتَ به، فقال: {وما أبرئ نفسي}، قاله قتادة.والخامس: أنه لما قاله، قالت امرأة العزيز: ولا يوم حللتَ سراويلك؟ فقال: {وما أبرئ نفسي}، قاله السدي.والذين قالوا: هذا قول امرأة العزيز، فالمعنى: وما أبرئ نفسي أني كنت راودته.والذين قالوا: هو العزيز، فالمعنى: وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف، لأنه قد خطر لي.قوله تعالى: {لأمَّارة بالسوء} قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، ويعقوب إِلا رويسًا: {بالسوء إِلا} بتحقيق الهمزتين.وقرأ أبو عمرو، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى، وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياءً.وقرأ أبو جعفر، وورش، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين، مثل: {السُّوء عِلاَّ} وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واوًا، وأدغمها في الواو التي قبلها، فتصير واوًا مكسورة مشددة قبل همزة {إِلا}.قوله تعالى: {إِلا ما رحم ربي} قال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إِلا أن رحمة ربي عليها المعتمَد.قال أبو صالح عن ابن عباس: المعنى: إِلا من عصم ربي.وقيل: {ما} بمعنى من.قال الماوردي: ومن قال: هو قول امرأة العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي في قهره لشهوته، أو في نزعها عنه.ومن قال: هو قول العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي بأن يكفيَه سوء الظن، أو يثبِّته، فلا يعجل.قال ابن الأنباري: والقول بأن هذا قول يوسف، أصح، لوجهين:أحدهما: لأن العلماء عليه.والثاني: لأن المرأة كانت عابدة وثن، وما تضمنته الآية، أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله عز وجل. اهـ.
.قال النسفي: {وَقَالَ نِسْوَةٌ}جماعة من النساء وكن خمسًا: امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب.والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثها غير حقيقي ولذا لم يقل قالت وفيه لغتان كسر النون وضمها: {فِى المدينة} في مصر: {امرأت العزيز} يردن قطفير، والعزيز الملك بلسان العرب: {تُرَاوِدُ فتاها} غلامها يقال فتاي وفتاتي أي غلامي وجاريتي: {عَن نَّفْسِهِ} لتنال شهوتها منه: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} تمييز أي قد شغفها حبه يعني خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب: {إِنَّا لَنَرَاهَا في ضلال مُّبِينٍ} في خطأ وبعد عن طريق الصواب: {فَلَمَّا سَمِعَتْ} راعيل: {بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن وقولهن امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها.وسمي الاغتياب مكرًا لأنه في خفية وحال غيبة كما يخفي الماكر مكره.وقيل كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} دعتهن.قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات: {وَأَعْتَدَتْ} وهيأت افتعلت من العتاد: {لَهُنَّ مُتَّكَئًا} ما يتكئن عليه من نمارق قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن أن يدهشن عند رؤيته ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها.لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده: {وآتت كل واحدة منهن سكينًا} وكانوا لا يأكلون في ذلك الزمان إلا بالسكاكين كفعل الأعاجم: {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ} بكسر التاء: بصري وعاصم وحمزة، وبضمها غيرهم.{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق، وكان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء، وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، وكان يشبه آدم يوم خلقه ربه.وقيل: ورث الجمال من جدته سارة.وقيل: {أكبرن} بمعنى حضن والهاء للسكت، إذ لا يقال النساء قد حضنه لأنه لا يتعدى إلى مفعول، يقال: أكبرت المرأة حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وجرحنها كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي تريد جرحتها أي أردن أن يقطعن الطعام الذي في أيديهن فدهشن لما رأينه فخدشن أيديهن: {وَقُلْنَ حاش لِلَّهِ} حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساء القوم حاشا زيد.وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى حاشا لله براءة الله وتنزيه الله.وقراءة أبي عمرو {حاشا لله} نحو قولك سقيا لك، كأنه قال براءة، ثم قال: الله، لبيان من يبرأ وينزه، وغيره: {حاش لله} بحذف الألف الأخيرة والمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} نفين عنه البشرية لغرابة جماله وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم لما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان.{قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} تقول هو ذلك العبد الكنعناني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه، تعني إنكن لم تصوّرنه حتى صورته وإلا لتعذرنني في الافتتان به: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، وهذا بيان جلي على أن يوسف عليه السلام بريء مما فسر به أولئك الفريق الهم والبرهان.ثم قلن له: أطع مولاتك، فقالت راعيل: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} الضمير راجع إلى ما هي موصولة، والمعنى ما آمره به.فحذف الجار كما في قوله أمرتك الخير أو ما مصدرية والضمير يرجع إلى يوسف أي ولئن لم يفعل أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه: {لَيُسْجَنَنَّ} ليحبسن والألف في: {وَلَيَكُونًا} بدل من النون التأكيد الخفيفة: {مِنَ الصاغرين} مع السراق والسفاك والأباق كما سرق قلبي وأبق مني وسفك دمي بالفراق، فلا يهنأ ليوسف الطعام والشراب والنوم هنالك كما منعني هنا كل ذلك، ومن لم يرض بمثلي في الحرير على السرير أميرًا حصل في الحصير على الحصير حسيرًا.فلما سمع يوسف تهديدها.{قَالَ رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} أسند الدعوة إليهن لأنهن قلن له ما عليك لو أجبت مولاتك، أو افتتنت كل واحدة به فدعته إلى نفسها سرًا فالتجأ إلى ربه، قال رب السجن أحب إلي من ركوب المعصية: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ} فزع منه إلى الله في طلب العصمة: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إليهن.والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها: {وَأَكُن مّنَ الجاهلين} من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لم يعلم سواء، أو من السفهاء، فلما كان في قوله: {وإلا تصرف عني كيدهن} معنى طلب الصرف والدعاء قال.{فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} أي أجاب الله دعاءه: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعوات الملتجئين إليه: {العليم} بحاله وحالهن: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} فاعله مضمر لدلالة ما يفسر عليه وهو: {ليسجننه} والمعنى بدا لهم بداء أي ظهر لهم رأي، والضمير في: {لهم} للعزيز وأهله: {مِنْ بَعْدَمَا رَأَوُاْ الآيات} وهي الشواهد على براءته كقد القميص وقطع الأيدي وشهادة الصبي وغير ذلك: {لَيَسْجُنُنَّهُ} لإبداء عذر الحال وإرخاء الستر على القيل والقال، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها وكان مطواعًا لها وحميلًا ذلولًا، زمامه في يديها وقد طمعت أن يذلله السجن ويسخره لها، أو خافت عليه العيون وظنت فيه الظنون فألجأها الخجل من الناس، والوجل من اليأس، إلى أن رضيت بالحجاب، مكان خوف الذهاب، لتشتفي بخبره، إذا منعت من نظره: {حتى حِينٍ} إلى زمان كأنها اقترحت أن يسجن زمانًا حتى تبصر ما يكون منه.
|